أصوات يهودية تنتقد إسرائيل- هل تهز صورة الدولة العبرية؟

المؤلف: د. عمار علي حسن08.26.2025
أصوات يهودية تنتقد إسرائيل- هل تهز صورة الدولة العبرية؟

إنَّ تجدُّد مظاهرات أنصار جمعية "الصوت اليهودي من أجل السلام العادل في الشرق الأوسط EJJP" الألمانية يُعيد بقوة إلقاء الضوء على سؤال محوري بشأن حجم التأثير الذي يُمكن أن يُحدثه رفض بعض الشخصيات والحركات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على حكومة بنيامين نتنياهو في المدى القصير، وعلى صورة إسرائيل عالميًا في المستقبل البعيد.

ويبدو الجواب على الشق الأول من هذا السؤال واضحًا نسبيًا، وهو أن هذه الحركات المتنوعة – سواء كانت "جماعة ناطوري كارتا" التي ترفض من الأساس قيام دولة إسرائيل، أو "اتحاد يهود أوروبيين من أجل سلام عادل"، أو غيرها من الأصوات الرافضة للإبادة الجماعية – أو حتى العديد من الأفراد اليهود البارزين في المجتمعات الغربية المعارضين لما يحدث في غزة، لا تمتلك القدرة على إحداث تأثير مادي ملموس على قرارات نتنياهو، ولا على توجهات السياسيين اليمينيين المتشددين في إسرائيل.

إلا أن هذا الموقف الرافض لا يخلو من دلالات معنوية ورمزية تتجاوز حدود الحكومة الإسرائيلية الحالية، بل يسهم في فتح آفاق جديدة لنقاشات جادة، وإن كانت محتشمة في بدايتها، حول المشروع الإسرائيلي الجديد الذي يعتمد على القمع والسيطرة، ومحاولة فرض الهيمنة بالقوة العسكرية الغاشمة على الأشقاء العرب.

واستنادًا إلى "النموذج الألماني"، فإن ما تقوم به هذه الحركات التي تصر على مواصلة التظاهر والاحتجاج ضد إبادة الفلسطينيين، رغم ما تتعرض له من قمع شديد من قبل الحكومات الغربية، يُحدث تأثيرات في عدة اتجاهات جديرة بالتأمل، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:

1 ـ إعادة طرح قضية "معاداة السامية" للنقاش والتدقيق، بعد عقود طويلة من اعتبارها من الثوابت الأساسية التي لا تقبل المراجعة في المجتمعات الغربية.

فها هي إيريس هيفتس، رئيسة الجمعية، تعبر عن استيائها وسخريتها من الألمان غير اليهود الذين يستغلون مسألة "معاداة السامية" في تحقيق مكاسب سياسية وشخصية ضيقة، وتقول بمرارة: "يريدون أن يعلمونا ما هي معاداة السامية".

ثم تنتقل بجرأة إلى انتقاد السلطة نفسها من هذا المنطلق، فتقول: "السلطات الألمانية تنشر الرواية الإسرائيلية حول معاداة السامية، وتخلط بشكل منهجي ومقصود بين اليهود وإسرائيل.. والوسم الجماعي لأي تصرفات أو مشاعر معادية لإسرائيل بمعاداة السامية، يعرض حياة اليهود للخطر الداهم".

وعلى الرغم من أن هذا الصوت يعتبر خافتًا نسبيًا بالمقارنة مع الموقف الرسمي للحكومة الألمانية، وما يفعله "المجلس المركزي لليهود" من جمع تبرعات سخية لصالح الجنود الإسرائيليين في الحرب، فإن مجرد إحداث شرخ في التصور الصلب والراسخ حول "معاداة السامية" على يد جمعية وأفراد من اليهود أنفسهم، وليس من أتباع أي ديانة أخرى في الغرب، سيجد له صدى واسعًا في أوساط اجتماعية تتجاوز المجموعات اليهودية، ليشق طريقًا جديدًا، أسوة بالعديد من التصورات والأفكار والرؤى التي ظهرت في الغرب، والتي بدأت معزولة ومحاصرة ومقموعة، ولكنها سرعان ما اتسعت دوائرها بمرور الوقت.

2 ـ توجيه الأنظار بقوة نحو ضرورة الفصل التام بين "الدين اليهودي" و"الصهيونية"، فالأخيرة ليست سوى تصور أو أيديولوجيا علمانية بحتة، لا ينفصل مقصدها الأساسي عن المشروع الاستعماري البغيض، ولكنها وظفت النصوص الدينية والتاريخ اليهودي لخدمة أغراضها وأهدافها.

وقد استفادت إسرائيل أيما استفادة من هذا الدمج المضلل في الدعاية والتعبئة، واجتذاب تعاطف الغربيين، وتلقي المنح والعطايا والتبرعات السخية من كل حدب وصوب.

ولم تتوان جمعية "الصوت اليهودي" عن إعلان موقفها الواضح والصريح عقب أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مباشرة، وسارعت إلى رفض قاطع بأن يكون العدوان الإسرائيلي الغاشم على الفلسطينيين تحت أي لافتة زائفة للدفاع عن اليهود أو باسمهم، فرفعت شعارًا مدويًا: "ليس باسمنا"، وهو الشعار نفسه الذي تبنته جمعيات وحركات شبيهة في الولايات المتحدة الأميركية.

ويمكن في هذا السياق إلقاء نظرة فاحصة على الأزمة العميقة التي تعيشها الصهيونية، والتي تتمحور حول أربعة عناصر أساسية، حسب رؤية المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري: إشكالية العلاقة بين الديني والعلماني، وأزمة الهوية المتفاقمة، ومشكلة التسكين أو الاستيطان، والتفكك التدريجي للإطار الفكري نتيجة النزعات الاستهلاكية والعلمنة والأمركة والعولمة والخصخصة.

وقادت هذه الأزمة المتشعبة، في نهاية المطاف، وفي ذروة نضجها، إلى ظهور تيار "ما بعد الصهيونية"، الذي يمثل تحولًا فكريًا واجتماعيًا هامًا.

وعلى الرغم من أن أطروحات "ما بعد الصهيونية" لم تقدم حتى الآن تصورًا متماسكًا وقابلاً للتطبيق، ولم تنجُ تمامًا من "التناقض الثقافي" أو "الفصام" في بعض الأحيان، ولم تصنع قطيعة جذرية مع الأفكار الأساسية للصهيونية وتاريخها، ولم تنفذ إلى قلب السياسات الإسرائيلية بشكل فعال، فإنها استندت إلى رؤية مغايرة نسبيًا عن الصهيونية، وكشفت عن إفلاسها أو عجزها عن المحافظة على حيويتها، أو إيجاد حلول ناجعة لإشكالية التلفيق بين عناصر متنافرة تزعم الجمع بينها، مثل التقاليد والخصوصية القومية والعالمية الشاملة والتحديث المستمر والدين والعلمانية.

ومع أن بعض المنتمين إلى هذه الفكرة – والذين يوصفون أحيانًا بأنهم "المنفيون وسط اليهود" – يتراجعون عن مواقفهم المعلنة، وبعض أفكارهم تباعًا، فإن رد الفعل الإسرائيلي القوي عليها يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أهميتها الكبيرة، وأنها قضية جوهرية لا يمكن الاستهانة بها.

فقد مارست السلطات الإسرائيلية كل ما في وسعها من قيود مادية ملموسة، وتشويه معنوي ممنهج، في سبيل حصار تيار "ما بعد الصهيونية"، على قلة المنتمين إليه، ولكن الجدل الواسع الذي أثارته الفكرة سرعان ما انتقل إلى اليهود في الخارج، بما في ذلك المنظمات واللوبيات الموالية لإسرائيل، وكان جزءًا لا يتجزأ من حجيتها وتأثيرها الفاعل هو تفاعلها الإيجابي مع بعض أطروحات الليبرالية حول التقليل من الدور الذي تلعبه الإثنيات في تحليل الدولة القومية في الديمقراطيات الغربية.

ويغذي موقف اليهود الرافضين للعدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، بمرور الوقت، أطروحة تيار "ما بعد اليهودية"، الذي ظهر منذ سبعينيات القرن العشرين، ويقدم رؤية نقدية جريئة لتعامل الدولة الإسرائيلية مع الأقليات المختلفة، مثل العرب واليهود الشرقيين (السفارديم).

ويسعى هذا التيار إلى استبدال "اليهودي الوطني" ضيق الأفق بـ "الرجل العالمي" المستنير، الذي ينظر إلى الدولة اليهودية باعتبارها ظاهرة قديمة بغيضة وتخريبية، وذلك بسبب معاداتها للعلمانية، وينتقد الأطروحات الدينية الجامدة التي تتعامل مع العلمانيين، في سعيهم لبناء الدولة، على أنهم مجرد "مطية" يركبها المتدينون للوصول إلى هدفهم الأسمى، وهو الاستيلاء المطلق على الدولة، وتجهيزها ترقبًا لمجيء المسيح المنتظر.

3 ـ ممارسة ضغوط معنوية هائلة على السلطة السياسية، وذلك من خلال فضح ازدواجيتها وتناقضاتها الصارخة، فهي في الوقت الذي تعلن فيه على الملأ احترامها الكامل للحريات العامة في التفكير والتعبير والتدبير، تمارس تضييقًا شديدًا وغير مبرر على منتقدي إسرائيل، وهي مسألة اختزلتها صورة معبرة لشرطة برلين وهي تحاصر ناشطة في جمعية "الصوت اليهودي" ترفع لافتة مكتوبًا عليها بوضوح: "كوني يهودية وإسرائيلية.. أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة".

4 ـ يؤدي موقف الجمعيات اليهودية الرافضة للحرب الظالمة إلى فضح التحيز الإعلامي الغربي الفاضح لإسرائيل، وتسليط الضوء الكاشف على محاولات إلغاء الأصوات الفلسطينية في ألمانيا، وهي مسألة تم الانتباه إليها مبكرًا، لا سيما بعد محاولات إسكات الأصوات الفلسطينية أو المتضامنة مع فلسطين بين رواد عالم الثقافة والفن، من خلال إلغاء التعاون معهم في إلقاء المحاضرات، أو تنظيم الندوات والفعاليات والمعارض، أو إجبارهم على ترك أعمالهم ووظائفهم، وإلغاء التعاقدات المبرمة.

وبالطبع، فإن النقد الموضوعي الذي توجهه جمعية يهودية للإعلام الألماني، الذي يعتبر الأكثر تحيزًا لإسرائيل في الغرب بأكمله، والأكثر قمعًا لأي صوت ينتقدها، لن يخلو من تأثير ملموس في دوائر ثقافية واجتماعية غربية بمرور الوقت، وسينبهها إلى أن السردية الإسرائيلية – وما يتماهى معها – ليست بالضرورة هي الحقيقة المطلقة، وهي مسألة في غاية الأهمية، قياسًا بما كسبته إسرائيل من ميل الإعلام الغربي إليها عبر عقود طويلة من الزمن.

ويمكن أن نورد مثالاً واضحًا على ذلك بالضجة الكبيرة التي أثارها مقال لكاتبة ألمانية يهودية معروفة، هي ديبورا فيلدمان، نشرته في صحيفة "الغارديان" البريطانية، بعنوان: "ألمانيا هي مكان جيد لتكون يهوديًا. إلا إذا كنت، مثلي، يهوديًا ينتقد إسرائيل"، حيث انتقدت فيه بشدة الانتقائية المريبة التي يمارسها الإعلام الألماني حيال العدوان الإسرائيلي السافر على غزة، وهي مسألة باتت للأسف تمارسها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية في الغرب بشكل عام.

وهنا، يمكن النظر إلى الحالة الألمانية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من حالة غربية أوسع وأشمل، حيث ظهرت قطاعات واسعة من اليسار الجديد في الغرب تعادي إسرائيل علنًا، بمن فيهم عدد كبير من الشباب اليهودي الساخط على قيم المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي المادي، الذي تجسده الدولة الصهيونية في العالم الثالث.

كما أن الأفكار التي يتبناها الملحدون واللادينيون لا تلتزم بالوعد التوراتي لليهود، ولا يشغلها التلازم الوثيق بين العهدين القديم والجديد الذي ولدت في كنفه "المسيحية الصهيونية"، والتي باتت ترى في مساندة إسرائيل واجبًا دينيًا وعقائديًا لا يمكن التخلي عنه.

بل على العكس من ذلك، مال هؤلاء، في ظل النزوع الإنساني المتأصل في دنيويته وراهنيته، إلى نبذ وازدراء كل النصوص أو التأويلات أو التفسيرات أو السياقات الدينية التي من شأنها إذكاء نار التعصب والعنصرية والكراهية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة